الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **
الجزء الأول بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله القديم الأول الذي لا يزول ملكه ولا يتحول خالق الخلائق وعالم الذرات بالحقائق مفنى الأمم ومحيي الرمم ومعيد النعم ومبيد النقم وكاشف الغمم وصاحب الجود والكرم لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون وأشهد أن لا إله إلا الله تعالى عما يشركون وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله إلى الخلق أجمعين المنزل عليه نبا القرون الأولين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ما تعاقبت الليالي والأيام وتداولت السنين والأعوام. وبعد فيقول الفقير عبد الرحمن بن حسن الجبرتي الحنفي غفر الله له ولوالديه وأحسن إليهما وإليه: إني كنت سودت أوراقًا في حوادث آخر القرن الثاني عشر وما يليه من أوائل الثالث عشر الذي نحن فيه جمعت فيها بعض الوقائع إجمالية وأخرى محققة تفصيلية وغالبها محن أدركناها وأمور شاهدناها واستطردت في ضمن ذلك سوابق سمعتها ومن أفواه الشيخة تلقيتها وبعض تراجم الأعيان المشهورين من العلماء والأمراء المعتبرين وذكر لمع من أخبارهم وأحوالهم وبعض تواريخ مواليدهم ووفياتهم. فأحببت جمع شملها وتقييد شواردها في أوراق متسقة النظام مرتبة على السنين والأعوام ليسهل على الطالب النبيه المراجعة ويستفيد ما يرومه من المنفعة الصحابة رضي الله عنهم وقال: أن الأموال قد كثرت وما قسمناه غير مؤقت فكيف التوصل إلى ما يضبط به ذلك. فقال له الهرمزان وهو ملك الأهواز وقد أسر عند فتوح فارس وحمل إلى عمر وأسلم على يديه: أن للعجم حسابا يسمونه ماه روز ويسندونه إلى من غلب عليهم الأكاسرة فعربوا لفظة ماه روز يمورخ ومصدره التاريخ واستعملوه في وجوه التصريف ثم شرح لهم الهرمزان كيفية استعمال ذلك فقال لهم عمر ضعوا للناس تاريخا يتعاملون عليه وتصير أوقاتهم فيما يتعاطونه من المعاملات مضبوطة. فقال له بعض من حضر من مسلمي اليهود: أن لنا حسابا مثله مسندًا إلى الإسكندر فما ارتضاه الآخرون لما فيه من الطول. وقال قوم: نكتب على تاريخ الفرس. قيل أن تواريخهم غير مسندة إلى مبدأ معين بل كلما قام منهم ملك ابتدأوا التاريخ من لدن قيامه وطرحوا ما قبله. فاتفقوا على أن يجعلوا تاريخ دولة الإسلام من لدن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم لأن وقت الهجرة لم يختلف فيه أحد بخلاف وقت ولادته ووقت مبعثه صلى الله عليه وسلم. وكان للعرب في القديم من الزمان بأرض اليمن والحجاز تواريخ يتعارفونها خلفا عن سلف إلى زمن الهجرة. فلما هاجر صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وظهر الإسلام وغلت كلمة الله تعالى اتخذت هجرته مبدأ لتاريخها وسميت كل سنة باسم الحادثة التي وقعت فيها. وتدرج ذلك إلى سنة سبع عشرة من الهجرة في زمن عمر فكان اسم السنة الأولى سنة الأذن بالرحيل من مكة إلى المدينة والثانية سنة الأمر أي بالقتال إلى آخره. وقال أصحاب التواريخ أن العرب في الجاهلية كانت تستعمل شهور الآلهة وتقصد مكة للحج وكان حجهم وقت عاشر الحجة كما رسمه سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكان لما كان لا يقع في فصل واحد من فصول السنة بل يختلف موقعه منها بسبب تفاضل ما بين السنة الشمسية والقمرية ووقوع أيام الحج في الصيف تارة وفي الشتاء أخرى وكذا في الفصلين الآخرين أرادوا أن يقع حجهم في زمان واحد لا يتغير وهو وقت إدراك الفواكه والغلال واعتدال الزمن في الحر والبرد ليسهل عليهم السفر ويتجروا بما معهم من البضائع والأرزاق مع قضاء مناسكهم. فشكوا ذلك إلى أميرهم وخطيبهم فقام في الموسم عند إقبال العرب من كل مكان فخطب ثم قال: أنا أنشأت لكم في هذه السنة شهرًا أزيده فتكون السنة ثلاثة عشر شهرًا وكذلك أفعل في كل ثلاث سنين أو أقل حسبما يقتضيه حساب وضعته ليأتي حجكم وقت أدراك الفواكه والغلال فتقصدونا بما معكم منها. فوافقت العرب على ذلك ومضت إلى سبيلها فنسأ المحرم وجعله كبيسًا وأخره إلى صفر وصفر إلى ربيع الأول وهكذا فوقع الحج في السنة الثانية في عاشر المحرم وهو ذو الحجة عندهم. وبعد انقضاء سنتين أو ثلاثة وانتهاء نوبة الكبيس أي الشهر الذي كان يقع فيه الحج وانتقاله إلى الشهر الذي بعده قام فيهم خطيبًا وتكلم بما أراد ثم قال: أنا جعلنا الشهر الفلاني من السنة الفلانية الداخلة للشهر الذي بعده. ولهذا فسر النسئ بالتأخير كما فسر بالزيادة. وكانوا يديرون النسئ على جميع شهور السنة بالنوبة حتى يكون لهم مثلا في سنة محرمان وفي أخرى صفران ومثل هذا بقية الشهور فإذا آلت النوبة إلى الشهر المحرم قام لهم خطيبا فينبئهم أن هذه السنة قد تكرر فيها اسم الشهر الحرام فيحرم عليهم واحدا منها بحسب رأيه على مقتضى مصلحتهم فلما انتهت النوبة في أيام النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحجة وتم دور النسئ على جميع الشهور حج صلى الله عليه وسلم في تلك السنة حجة الوداع وهي السنة العاشرة من الهجرة لموافقة الحج فيها عاشر الحجة ولهذا لم يحج صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة حين حج أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالناس لوقوعه في عاشر ذي القعدة. فلما حج صلى الله عليه وسلم حجة الوداع خطب وأمر الناس بما شاء الله تعالى. ومن جملته: إلا أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض يعني رجوع الحج إلى الموضع الأول كما كان في زمن سيدنا إبراهيم صلوات الله تعالى عليه ثم تلا قوله تعالى أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعملوا إن الله مع المتقين إنما زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين. و منع العرب من هذا الحساب وأمر بقطعه والاستمرار بوقوع الحج في أي زمان أتى من فصول السنة الشمسية فصارت سنوهم دائرة في الفصول الأربع والحج واقع في كل زمان منها كما كان في زمن إبراهيم الخليل عليه السلام. ثم كون حجة الصديق واقعة في القعدة فهو قول طائفة من العلماء. وقال آخرون بل وقعت حجته أيضا في ميقاتها من ذي الحجة وقد روي في السنة ما يدل على ذلك والله أعلم بالحقائق. ولما كان علم التاريخ علما شريفا فيه العظة والاعتبار وبه يقيس العاقل نفسه على من مضى من أمثاله في هذه الدار وقد قص الله تعالى أخبار الأمم السالفة في أم الكتاب فقال تعالى لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب. وجاء من أحاديث سيد المرسلين كثير من أخبار الأمم الماضين كحديثه عن بني إسرائيل وما غيروه من التوراة والإنجيل وغير ذلك من أخبار العجم والعرب مما يفضي بمتأمله إلى العجب. وقد قال الشافعي رضي الله عنه: من علم التاريخ زاد عقله. ولم تزل الأمم الماضية من حين أوجد الله هذا النوع الإنساني تعتني بتدوينه سلفًا عن سلف وخلفًا من بعد خلف إلى أن نبذه أهل عصرنا وأغفلوه وتركوه وأهملوه وعدوه من شغل البظالين وأساطير الأولين ولعمري أنهم لمعذورون وبالأهم مشتغلون ولا يرضون لأقلامهم المتعبة في مثل هذه المنقبة فإن الزمان قد انعكست أحواله وتقلصت ظلاله وانخرمت قواعده في الحساب فلا تضبط وقائعه في دفتر ولا كتاب. وأشغال الوقت في غير فائدة ضياع وما مضى وفات ليس له استرجاع إلا أن يكون مثل الحقير منزويا في زوايا الخمول والإهمال منجمعًا عما شغلوا به من الأشغال فيشغل نفسه في أوقات من خلواته ويسلي وحدته بعد سيئات الدهر وحسناته. وفن التاريخ علم يندرج فيه علوم كثيرة لولاه ما ثبتت أصولها ولا تشعبت فروعها منها طبقات القراء والمفسرين والمحدثين وسير الصحابة والتابعين وطبقات المجتهدين وطبقات النجاة والحكماء والأطباء وأخبار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأخبار المغازي وحكايات الصالحين ومسامرة الملوك من القصص والأخبار والمواعظ والعبر والأمثال وغرائب الأقاليم وعجائب البلدان. ومنها كتب المحاضرات ومفاكهة الخلفاء وسلوان المطاع ومحاضرات الراغب. وأما الكتب المصنفة فيه فكثيرة جدا ذكر منها في مفتاح السعادة ألفًا وثلاثمائة كتاب قال في ترتيب العلوم وهذا بحسب إدراكه واستقصائه وألا فهي تزيد على ذلك لأنه ما ألف في فن من الفنون مثل ما ألف في التواريخ وذلك لانجذاب الطبع إليها والتطلع على أمور المغيبات ولكثرة رغبة السلاطين لزيادة اعتنائهم بحسب التطلع على سير من تقدمهم من الملوك مع ما لهم من الأحوال والسياسات وغير ذلك فمن الكتب المصنفة فيه تاريخ ابن كثير في عدة مجلدات وهو القائل شعرًا: تمر بنا الأيام تترى وإنما نساق إلى الآجال والعين تنظر فلا عائد صفو الشباب الذي مضى ولا زائل هذا المشيب المكدر وتاريخ الطبرى وهو أبو جعفر محمد بن جرير الطبري مات سنة عشر وثلاثمائة ببغداد وتاريخ ابن الأثير الجزري المسمى بالكامل ابتدأ فيه من أول الزمان إلى أواخر سنة ثمان وعشرين وستمائة وله كتاب أخبار الصحابة في ست مجلدات. وتاريخ ابن الجوزي وله المنتظم في تواريخ الأمم ومرآة الزمان لسبط ابن الجوزي في أربعين مجلدًا وتاريخ ابن خلكان المسمى بوفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان وتواريخ المسعودي أخبار الزمان والأوسط ومروج الذهب. ومن أجل التواريخ تواريخ الذهبي الكبير والأوسط المسمى بالعير والصغير المسمى دول الإسلام وتواريخ السمعاني منها ذيل تاريخ بغداد لأبي بكر بن الخطيب نحو خمسة عشر مجلداُ وتاريخ مرو يزيد على عشرين مجلدًا والأنساب في نحو ثمان مجلدات وتواريخ العلامة ابن حجر العسقلاني وتاريخ الصفدي وتواريخ السيوطي وتاريخ الحافظ ابن عساكر في سبعة وخمسين مجلداُ وتاريخ اليافعي وبستان التواريخ ست مجلدات وتواريخ بغداد وتواريخ حلب وتواريخ أصبهان للحافظ أبي نعيم وتاريخ بلخ وتاريخ الأندلس والإحاطة في أخبار غرناطة وتاريخ اليمن وتاريخ مكة وتواريخ الشام وتاريخ المدينة المنورة وتواريخ الحافظ المقريزي وهي الخطط والآثار و غير ذلك ونقل في مؤلفاته أسماء تواريخ لم نسمع بأسمائها في غير كتبه مثل تاريخ ابن أبي طي والمسيحي وأبن المأمون وأبن زولاق والقضاعي. ومن التواريخ تاريخ العلامة العيني كي أربعين مجلدًا رأيت منها بعض مجلدات بخطه وهي ضخمة في قالب الكامل ومنها تاريخ الحافظ السخاوي والضوء اللامع في أهل القرن التاسع رتبه على حروف المعجم في عدة مجلدات وتاريخ العلامة ابن خلدون في ثمان مجلدات ضخام ومقدمته مجلد على حدة من أطلع عليها رأى بحرًا متلاطما بالعلوم مشحونا بنفائس جواهر المنطوق والمفهوم وتاريخ ابن دقاق. وكتب التواريخ أكثر من أن تحصى وذكر المسعودي جملة كبيرة منها وتاريخه لغاية سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة فما ظنك بما بعد ذلك. قلت: وهذه صارت أسماء من غير مسميات فأنا لم نر من ذلك كله ألا بعض أجزاء بقيت في بعض خزائن كتب الأوقاف بالمدارس مما تداولته أيدي الصحافيين وباعها القومة والمباشرون ونقلت إلى بلاد المغرب والسودان ثم ذهبت بقايا البقايا في الفتن والحروب وأخذ الفرنسيس ما وجدوه إلى بلادهم. ولما عزمت على جمع ما كنت سودته أردت أن أوصله بشيء قبله فلم أجد بعد البحث والتفتيش ألا بعض كراريس سودها بعض العامة من الأجناد ركيكة التركيب مختلة التهذيب والترتيب وقد اعتراها النقص من مواضع في خلال بعض الوقائع. وكنت ظفرت بتاريخ من تلك الفروع لكنه على نسق في الجملة مطبوع لشخص يقال له أحمد حلبي بن عبد الغني مبتدئا فيه من وقت تملك بني عثمان للديار المصرية وينتهي كغيره ممن ذكرناه إلى خمسين ومائة وألف هجرية. ثم أن ذلك الكتاب استعاره بعض الأصحاب وزلت به القدم ووقع في صندوق العدم. ومن ذلك الوقت إلى وقتنا هذا لم يتقيد أحد بتقييد ولم يسطر في هذا الشأن شيئا يفيد فرجعنا إلى النقل من أفواه الشيخة المسنين وصكوك دفاتر الكتبة والمباشرين وما انتقش على أحجار ترب المقبورين وذلك من أول القرن إلى السبعين وما بعدها إلى التسعين أمور شاهدناها ثم نسيناها وتذكرناها ومنها إلى وقتنا أمور تعقلناها وقيدناها وسطرناها إلى أن تم ما قصدنا بأي وجه كان وانتظم ما أردنا استطراده من وقتنا إلى ذلك الأوان. وسنورد أن شاء الله تعالى ما ندركه من الوقائع بحسب الإمكان والخلو من الموانع إلى أن يأتي أمر الله وأن مردنا إلى الله ولم أقصد بجمعه خدمة ذي جاه كبير أو طاعة وزير أو أمير ولم أداهن فيه دولة بنفاق أو مدح أو ذم مباين للأخلاق لميل نفساني أو غرض جسماني وأنا استغفر الله من وصفي طريقا لم أسلكه وتجارتي مقدمة أعلم أن الله تعالى لما خلق الأرض ودحاها وأخرج منها ماءها ومرعاها وبث فيها من كل دابة وقدر أقواتها أحوج بعض الناس إلى بعض في ترتيب معايشهم ومآكلهم وتحصيل ملابسهم ومساكنهم لأنهم ليسوا كسائر الحيوانات التي تحصل ما تحتاج إليه بغير صنعة. فإن الله تعالى خلق الإنسان ضعيفا لا يستقل وحده بأمر معاشه لاحتياجه إلى غذاء ومسكن ولباس وسلاح فجعلهم الله تعالى يتعاضدون يتعاونون في تحصيلها وترتيبها بان يزرع هذا لذاك ويخبز ذاك لهذا وعلى هذا القياس تتم سائر أمورهم ومصالحهم وركز في نفوسهم الظلم والعدل. ثم مست الحاجة بينهم ميزانا للعدالة وقانونا لسياسة توزن به حركاتهم وسكناتهم وترجع إليه طاعاتهم ومعاملاتهم فانزل الله كتابه بالحق وميزانه بالعدل كما قال تعالى: الله الذي انزل الكتاب بالحق والميزان. قال علماء التفسير المراد بالكتاب والميزان العلم والعدل وكانت مباشرة هذا الأمر من الله بنفسه من غير واسطة وسبب على خلاف ترتيب المملكة وقانون الحكمة فاستخلف فيها من الآدميين خلائف ووضع في قلوبهم العلم والعدل ليحكموا بهما بين الناس حتى يصدر تدبيرهم عن دين مشروع وتجتمع كلمتهم على رأي متبوع ولو تنازعوا في وضع الشريعة لفسد نظامهم واختل معاشهم. فمعنى الخلافة هو أن ينوب أحد مناب آخر في التصرف واقفا على حدود أوامره ونواهيه وأما معنى العدالة فهي خلق في النفس أو صفة في الذات تقتضي المساواة لأنها أكمل الفضائل لشمول أثرها وعموم منفعتها كل شيء وإنما يسمى الإنسان عادلا لما وهبه الله قسطا من عدله وجعله سببا وواسطة لإيصال فيض فضله واستخلفه في أرضه بهذه الصفة حتى يحكم بين الناس بالحق والعدل كما قال تعالى: يا داود أنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق. وخلائف الله هم القائمون بالقسط والعدالة في طريق الاستقامة ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه والعدالة تابعة للعلم بأوساط الأمور المعبر عنها في الشريعة بالصراط المستقيم. وقوله تعالى: أن ربي على صراط مستقيم إشارة إلى أن العدالة الحقيقية ليست ألا لله تعالى فهو العادل الحقيقي الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ووضع كل شيء على مقتضى علمه الكامل وعدله الشامل. وقوله صلى الله عليه وسلم: بالعدل قامت السموات والأرض إشارة إلى عدل الله تعالى الذي جعل لكل شيء قدرًا لو فرض فارض زائدًا عليه أو ناقصًا عنه لم ينتظم الوجود على هذا النظام بهذا التمام والكمال. ورفع الله بعضهم فوق بعض درجات كما قال تعالى: وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات: الأول الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام فهم أدلاء الأمة وعمد الدين ومعادن حكم الكتاب وأمناء الله في خلقه هم السراج المنيرة على سبيل الهدى وحملة الأمانة عن الله إلى خلقه بالهداية بعثهم الله رسلا إلى قومهم وأنزل معهم الكتاب والميزان ولا يتعدون حدود ما أنزل الله إليهم من الأوامر والزواجر إرشادًا وهداية لهم حتى يقوم الناس بالقسط والحق ويخرجونهم من ظلمات الكفر والطغيان إلى نور اليقظة والأيمان وهم سبب نجاتهم من دركات جهنم إلى درجات الجنان. وميزان عدالة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الدين المشروع الذي وصاهم الله بإقامته في قوله تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا. فكل أمر من أمور الخلائق دنيا وآخرة عاجلًا وآجلًا قولًا وفعلًا حركة وسكونًا جار على نهج العدالة ما دام موزونًا بهذا الميزان ومنحرف عنها بقدر انحرافه عنه ولا تصح الإقامة بالعدالة ألا بالعلم وهو أتباع أحكام الكتاب والسنة. العلماء - الذين هم ورثة الأنبياء فهم فهموا مقامات القدوة من الأنبياء وأن لم يعطوا درجاتهم واقتدوا بهداهم واقتفوا آثارهم إذ هم أحباب الله وصفوته من خلقه ومشرق نور حكمته فصدقوا بما أتوا به وساروا على سبيلهم وأيدوا دعوتهم ونشروا حكمتهم كشفًا وفهمًا وذوقًا وتحقيقًا أيمانًا وعلمًا بكمال المتابعة لهم ظاهرًا وباطنًا. فلا يزالون مواظبين على تمهيد قواعد العدل وإظهار الحق برفع منار الشرع وإقامة أعلام الهدى والإسلام وأحكام مباني التقوى برعاية الأحوط في الفتوى تزهدًا للرخص لأنهم أمناء لله في العالم وخلاصة بني آدم مخلصون في مقام العبودية مجتهدون في أتباع أحكام الشريعة عن باب الحبيب لا يبرحون ومن خشية ربهم مشفقون مقبلون على الله تعالى بطهارة الأسرار وطائرون إليه بأجنحة العلم والأنوار هم أبطال ميادين العظمة وبلابل بساتين العلم والمكالمة. أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون وتلذذوا بنعيم المشاهدة ولهم عند ربهم ما يشتهون. وما ظهر في هذا الزمان من الاختلال في حال البعض من حب الجاه والمال والرياسة والمنصب والحسد والحقد لا يقدح في حال الجميع لأنه لا يخلو الزمان من محقيهم وأن كثر المبطلون ولكنهم أخفياء مستورون تحت قباب الخمول لا تكشف عن حالهم يد الغيرة الإلهية والحكمة الأزلية. وهم آحاد الأكوان وأفراد الزمان وخلفاء الرحمن وهم مصابيح الغيوب مفاتيح أقفال القلوب وهم خلاصة خاصة الله من خلقه وما برحوا أبدًا في مقعد صدقه بهم يهتدي كل حيران ويرتوي كل ظمآن وذلك أن مطلع شمس مشارق أنوارهم مقتبس من مشكاة النبوة المصطفوية ومعدن شجرة أسرارهم مؤيد بالكتاب والسنة لا أحصي ثناء عليهم أفض اللهم علينا مما لديهم. الثالث الملوك وولاة الأمور يراعون العدل والأنصاف بين الناس والرعايا توصلا إلى نظام المملكة وتوسلًا إلى قوام السلطنة لسلامة الناس في أموالهم وأبدانهم وعمارة بلدانهم ولولا قهرهم وسطوتهم لتسلط القوي على الضعيف والدنيء على الشريف. فرأس المملكة وأركانها وثبات أحوال الأمة وبنيانها العدل والأنصاف سواء كانت الدولة إسلامية أو غير إسلامية فهما أس كل مملكة وبنيان كل سعادة ومكرمة. فإن الله تعالى أمر بالعدل ولم تكتف به حتى أضاف إليه الإحسان فقال تعالى: أن الله يأمر بالعدل والإحسان لأن بالعدل ثبات الأشياء ودوامها وبالجور والظلم خرابها وزوالها فإن الطباع البشرية مجبولة على حب الانتصاف من الخصوم وعدم الأنصاف لهم والظلم والجور كامن في النفوس لا يظهر ألا بالقدرة كما قيل: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم فلولا قانون السياسة وميزان العدالة لم يقدر مصل على صلاته ولا عالم على نشر علمه ولا تاجر على سفره فإن قيل: فما حد الملك العادل قلنا: هو ما قال العلماء بالله من عدل بين العباد وتحذر عن الجور والفساد حسبما ذكره رضى الصوفي في كتابه المسمى بقلادة الأرواح وسعادة الأفراح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة قيام ليلها وصيام نهارها. وفي حديث آخر: والذي نفس محمد بيده أنه ليرفع للملك العادل إلى السماء مثل عمل الرعية وكل صلاة يصليها تعدل سبعين ألف صلاة وكأن الملك العادل قد عبد الله بعبادة كل عابد وقام له بشكر كل شاكر فمن لم يعرف قدر هذه النعمة الكبرى والسعادة العظمى واشتغل بظلمه وهواه يخاف عليه بان يجعله الله من جملة أعدائه وتعرض إلى أشد العذاب كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: أن أبغض الناس إلى الله تعالى وأشدهم عذابا يوم القيامة إمام جائر. فمن عدل في حكمه وكف عن ظلمه نصره الحق وأطاعه الخلق وصفت له النعمى وأقبلت عليه الدنيا فتهنأ بالعيش واستغنى عن الجيش وملك القلوب وأمن الحروب وصارت طاعته فرضا وظلت رعيته جندًا لأن الله تعالى ما خلق شيئا أحلى مذاقا من العدل ولا أروح إلى القلوب من الأنصاف ولا أمر من الجور ولا أشنع من الظلم. فالواجب على الملك وعلى ولاة الأمور أن لا يقطع في باب العدل ألا بالكتاب والسنة لأنه يتصرف في ملك الله وعباد الله بشريعة نبيه ورسوله نيابة عن تلك الحضرة ومستخلفا عن ذلك الجناب المقدس ولا يأمن من سطوات ربه وقهره فيما يخالف أمره فينبغي أن يحترز عن الجور والمخالفة والظلم والجهل فانه أحوج الناس إلى معرفة العلم وأتباع الكتاب والسنة وحفظ قانون الشرع والعدالة فإنه منتصب لمصالح العباد وإصلاح البلاد وملتزم بفصل خصوماتهم وقطع النزاع بينهم وهو حامي الشريعة بالإسلام فلا بد من معرفة أحكامها والعلم بحلالها وحرامها ليتوصل بذلك إلى إبراء ذمته وضبط مملكته وحفظ رعيته فيجتمع له مصلحة دينه ودنياه وتمتلئ القلوب بمحبته والدعاء له فيكون ذلك أقوم لعمود ملكه وأدوم لبقائه وأبلغ الأشياء في حفظ المملكة العدل والأنصاف على الرعية. وقيل لحكيم: أيهما أفضل العدل أم الشجاعة فقال: من عدل استغنى عن الشجاعة لأن العدل أقوى جيش وأهنأ عيش. وقال الفضيل بن عياض: النظر إلى وجه الإمام العادل عبادة وأن المقسطين عند الله على منابر من نور يوم القيامة عن يمين الرحمن. قال: سفيان الثوري: صنفان إذا صلحا صلحت الأمة وإذا فسدا فسدت الأمة: الملوك والعلماء. والملك العادل هو الذي يقضي بكتاب الله عز وجل ويشفق على الرعية شفقة الرجل على أهله. روى ابن يسار عن أبيه أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيما وال ولي من أمر أمتي شيئا فلم ينصح لهم ويجتهد كنصيحته وجهده لنفسه كبه الله على وجهه يوم القيامة في النار. الرابع أوساط الناس يراعون العدل في معاملاتهم وأروش جناياتهم بالأنصاف فهم يكافؤون الحسنة بالحسنة والسيئة بمثلها. الخامس القائمون بسياسة نفوسهم وتعديل قواهم وضبط جوارحهم وانخراطهم في سلك العدول لأن كل فرد من أفراد الإنسان مسؤول عن رعايا رعيته التي هي جوارحه وقواه كما ورد: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته كما قيل: صاحب الدار مسؤول عن أهل بيته وحاشيته. ولا تؤثر عدالة الشخص في غيره ما لم تؤثر أولًا في نفسه إذ التأثير في البعيد قبل القريب بعيد. وقوله تعالى: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم دليل على ذلك والإنسان متصف بالخلافة لقوله تعالى: ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون. ولا تصح خلافا الله ألا بطهارة النفس كما أن أشرف العبادات لا تصح ألا بطهارة الجسم فما اقبح بالمرء أن يكون حسن جسمه باعتبار قبيح نفسه كما قال حكيم لجاهل صبيح الوجه: أما البيت فحسن وأما ساكنه فقبيح. وطهارة النفس شرط في صحة الخلافة وكمال العبادة ولا يصح نجس النفس لخلافة الله تعالى ولا يكمل لعبادته وعمارة أرضه ألا من كان طاهر النفس قد أزيل رجسه ونجسه. فللنفس نجاسة كما أن للبدن نجاسة فنجاسة البدن يمكن إدراكها بالبصر ونجاسة النفس لا تدرك ألا بالبصيرة كما أشار له بقوله تعالى: إنما المشركون نجس. فإن الخلافة هي الطاعة والاقتدار على قدر طاقة الإنسان في اكتساب الكمالات النفسية والاجتهاد بالإخلاص في العبودية والتخلق بأخلاق الربوبية ومن لم يكن طاهر النفس لم يكن طاهر الفعل. فكل أناء بالذي فيه ينضح. ولهذا قيل: من طابت نفسه طاب عمله ومن خبثت نفسه خبث عمله. وقيل في قوله عليه الصلاة والسلام: لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب أنه أشار بالبيت إلى القلب وبالكلب إلى النفس الإمارة بالسوء أو إلى الغضب والحرص والحسد وغيرها من الصفات الذميمة الراسخة في النفس ونبه بان نور الله لا يدخل القلب إذا كان فيه ذلك الكلب. وإلى الطهارتين أشار بقوله تعالى: وثيابك فطهر والرجز فاهجر. وأما الذي تطهر به النفس حتى تصلح للخلافة وتستحق به ثوابه فهو العلم والعبادة الموظفة اللذان هما سبب الحياة. توضيح أعلم أن الإنسان من حيث الصورة التخطيطية كصورة في جدار وإنما فضيلته بالنطق والعلم. ولهذا قيل: ما الإنسان لولا اللسان ألا بهمة مهملة أو صورة فبقوة العلم والنطق والفهم يضارع الملك وبقوة الأكل والشرب والشهوة والنكاح والغضب يشبه الحيوان. فمن صرف همته كلها إلى تربية القوة الفكرية بالعلم والعمل فقد لحق بأفق الملك فيسمى ملكا وربانيا كما قال تعالى: أن هذا ألا ملك كريم. ومن صرف همته كله إلى تربية القوة الشهوانية باتباع اللذات البدنية يأكل كما تأكل الأنعام فحقيق أن يلحق بالبهائم أما غمرًا كثور أو شرهًا كخنزير أو عقورًا ككلب أو حقودًا كجمل أو متكبرًا كنمر أو ذا حيلة ومكر كثعلب أو يجمع ذلك كله فيصير كشيطان مريد وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت. وقد يكون كثير من الناس من صورته صورة إنسان وليس هو في الحقيقة ألا كبعض الحيوان. قال الله تعالى: أن هم ألا كالأنعام بل هم أضل: مثل لبهائم جهلا جل خالقهم لهم تصاوير لم يقرن بهن جحا
|